هيثم طيب
وجدت نفسي أسير في طريق موحش..
الشمس تسطع في عناد أليم..
أدوس رملاً ناعمًا ملتهبًا كأنه نار ممتدة تحت أقدامي..
وأتعثر بحجارة سوداء صامتة.. فلا أملك إلا المضي قُدمًا وأنا أعض على شفتي السفلى حنقًا.. أو خوفًا..
لم أكن قادرًا على التمييز, ولم تعد لدي القوة أو الرغبة لأحاول ذلك..
أشم رائحة كريهة هي مزيج من روائح عرق ودم وبقايا جلد قدمي وساقي المحترق..
حبات العرق الساخنة تتسابق فتنفذ إلى ما تحت أجفاني.. والملوحة تحرق عيني المغمضة..
والدرب يكاد لا ينقضي منه شيء..
والشمس تسطع في عناد أليم..
فأحرقت كلاً من الحجر والشجر.. فلا تجد إلا بقايا جذوع ميتة..
وأشياء أخرى..
كلها ميتة.. أو شبه ميتة..
وجماجم متناثرة على طرفي الطريق..
جماجم من سلكوا هذا الدرب الطويل قبلي..
جماجم صامتة..
لا عيون.. بل فجوات سوداء..
لا أنف.. بل ثقوب سوداء..
لا جبين أو خدود.. بل بقايا عظام بيضاء أو رمادية.. أو سوداء..
لا ثغر يضحك أو يبكي.. بل أسنان متراصة تضحك من دون سبب.. أو تصرخ في صمت..
أو هكذا تراءى لي ذلك..
مهلاً..
أيتلاعب السراب بي.. أم أن هذه الجماجم تتبسم؟!
هل هو تخيل أصاب نظري.. أم أنها حقيقة؟!
مستحيل أن تتبسم..
وأنى لها ذلك, فلا شفاه لها..
ولا ثغور؟!
ولكني أراه الآن في وضوح..
إنها تتبسم لي..
وكأنها تعرفني..
أحسست برعب قاتل يملأ قلبي..
فصرفت نظري عن تلك الجماجم الضاحكة..
وهممت أن أهرب مسرعًا.. لعلني أنتهي من هذه المأساة.. ومن هذه المصيبة..
ولكن نظرة واحدة على الرمل جعلتني أقف مذهولاً فاغرًا فمي..
فهناك وعلى بعد بضعة أقدام.. -عند موضع جبيني لو أني سجدت حينئذ- كان نقش واضح..
"واصطبر"..!!
اقتربت على وجل..
اقتربت لألقي على تلك الكلمة نظرة فاحصة..
فلعلها كانت سرابًا أو وهمًا..
ولكنها لم تكن سرابًا..
ولم تكن وهمًا..
بل كانت نقشًا ثابتًا..
بل كانت رسالة جلية.
بل كانت آية ربانية..
"واصطبر"..!!
وقفت صامتًا..
من أنا؟
ولم أنا هنا؟
ولم هذا الطريق؟
نظرت إلى الجماجم من جديد.. فوجدتها صامتة.. ترقد في سلام..
ولكني لم أعد أشعر بوحشة منها..
تقدمت خطوة.. ثم خطوة أخرى..
ثم خطوات...
ثم قفزات..
أشعر مع كل منها بألم رهيب في جسدي..
وكأن سياط الدنيا تنهش في لحمي ودمي..
ثم قفزات..
أشعر مع كل منها بنشوة لذيذة في روحي..
وكأني على لقاء مع حبيب معشوق..
جعلت أسير على عجل..
ما زلت أعرج.. وما زلت أتعثر..
وما زلت أتألم، ولكني لم أعد أهتم..
فكلما أحسست بوهن؛ تذكرت النقش.. "واصطبر"..
وكلما شعرت بخذلان تذكرت نقشًا آخر وجدته.. " إن الله مع الصابرين"..
وكلما شعرت بفتور تذكرت نقشًا ثالثًا.. " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا"..
وكلما شعرت بخوف تذكرت نقشًا أحبه جدًّا.. " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا"..
وكلما شعرت بسخط الناس ونقدهم تذكرت نقشًا ذهبيًّا.." والله يحب الصابرين"..
الطريق طويل.. ويحتاج إلى عزيمة..
والطريق وعر.. ويحتاج إلى همة..
ولكن الطريق لم يعد موحشًا..
بل أنيسًا مؤنسًا..
فشكرًا لتلك الجماجم!!